التجريب في الإخراج المسرحي بالجزائر: ضرورة وظيفية أم تخريب جمالي؟
طرح د. الحبيب سوالمي من جامعة تلمسان، مقاربة مثيرة للاهتمام عن التجريب في الإخراج المسرحي بالجزائر، وتساءل عما إذا كان الأمر موصول بضرورات وظيفية، أم أنّ الأمر يتعلق بتطبيقات عارضة أفرزت تخريباً جمالياً؟، كما اقترب من بينية المسرح الجزائري المعاصر بين تجميل الصورة البصرية وتكسير المعنى.
في ورقته الموسومة “التجريب في الإخراج المسرحي الجزائري ضرورة وظيفية أم تخريب جمالي؟”، أحال سوالمي إلى أنّ المسرح باعتباره نشاطاً إبداعياً متجدداً، يسعى إلى الارتقاء بالأشكال التقليدية في صورة مسرح تجريبي جديد، ويشتغل هذا الإبداع المتجدد المستمر على “الجديد ويحاول أن يتجاوز الصيغ المقيدة ويراهن على التحول وتجدد أدواته لاكتشاف مجالات التقنية من سينوغرافيا وإضاءة وديكور بما في ذلك الممثل والنص”.
وفي مداخلته برسم الملتقى الفكري لأيام الشارقة المسرحية الـ 33، قدّر سوالمي أنّ هذا التجديد مردّه “عقم الأشكال القديمة ورتابتها وعدم قدرتها على الخروج من وعاء المسرح الأرسطي، فخصوصية المسرح الأدبية والفنية والتخييلية وبِعَدِّه ظاهرة حضارية وإنسانية، تفرض عليه وتؤهله لأن يغيّر من لغته وأبنيته وخياله وتركيبته بتغير المكان والزمان”.
وانتقل الأستاذ في جامعة تلمسان إلى التساؤل: “هل التجريب في المسرح الجزائري ذهب في هذا النحو؟ أم أنّ استعمال المصطلح لا يعدو أن يكون مجرد ذريعة للهروب من إكراهات الخشبة؟ ثم هل ما يقوم به المسرحيون الجزائريون هو تجريب مسرحي واعٍ أم تخريب غير مقصود لمفهوم المسرح؟ وإلى أي مدى تعامل المخرجون والمبدعون المسرحيون الجزائريون مع هذا المصطلح –التجريب-؟ وهل المخرج الجزائري عندما يتحدث عن مفهوم التجريب يقصد التجديد في الآليات الفكرية والفلسفية في إنتاج المعنى المسرحي؟ أم أنّه يقصد الخروج عن أطر المسرح إلى أطر فرجوية أخرى؟ أم يستعملون المصطلح للهروب من سؤال النقد؟
التجريب الوظيفي
ذكر سوالمي أهمّ المخرجين الجزائريين الذين اعتمدوا مفهوم التجريب الوظيفي في أعمالهم والأسباب التي دفعتهم لذلك، ووضع عبد القادر ولد عبد الرحمن (كاكي) في الصدارة، مشيراً إلى أنّ (كاكي) أخذ على عاتقه التجديد على مستوى النص المسرحي، واعتمد على مفهوم التراث لإحياء الهوية الجزائرية مستعملاً إياه لانتقاد مجموعة من العادات والترسبات الاجتماعية والعقائدية في الجزائر، لينتج لنا أعمالاً مسرحية مثل بني كلبون والقراب والصالحين، آخذاً سمات المسرح الملحمي كوسيط فني ليعيد إنتاج مسرح محلي يهدف إلى تنوير الرأي العام الجزائري بضرورة الحفاظ على الهوية الجزائرية، فكانت تجربته تستحق الثناء، على الرغم من أنها لم تكن مكتملة في جانبها الإخراجي، فكاكي ركّز على النص ولم يركز كثيرا على جماليات الصورة المشهدية.
أما كاتب ياسين فأسس أستديو تجريبياً في المسرح الجهوي بسيدي بلعباس واعتمد على الكتابة الجماعية، مركّزاً على توثيق الأحداث التاريخية من خلال المزج بين مفاهيم المسرح التقليدي الأرسطي والمسرح الملحمي، فأنتج هذا الأستديو نوعاً جديداً في المسرح الجزائري سُمي “المسرح التوثيقي” أو “المسرح التسجيلي”، بغضّ النظر عن الهفوات الجمالية التي تخللته في جانبها الإخراجي.
وكذلك الأمر بالنسبة لعبد القادر علولة الذي اعتمد على مفهوم الحلقة والقوال وهي مظاهر فرجوية كانت منتشرة في الأسواق والساحات الجزائرية حاول مسرحتها فأدخلها إلى العلبة الإيطالية أحيانا ثم خرج بها إلى المساحات العامة. مراهناً على الفضاء المفتوح والذي استعمل فيه جماليات بصرية بسيطة بدل الديكورات الضخمة.
هذه التجارب الكبيرة التي لاقت انتشاراً واسعاً في الجزائر في النصف الثاني من القرن العشرين، كان لها مبرراتها الفنية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية التي رافقت هذه التحولات.
وهم التجريب الجديد
لفت سوالمي إلى الضجة الكبيرة المتصاعدة مؤخراً حول التجريب والخروج عن المفهوم الدرامي للمسرح والدخول في تجربة ما بعد الدراما والاعتماد على الصورة المشهدية بدل الصورة الحوارية، وكأنّ التجريب هو تهريج وخروج عن أصول الدراما، وظهرت مجموعة من الأعمال تدّعي أنها تقوم على التجريب من أجل التجديد في صلب المفهوم المسرحي فتحوّل الأمر من “تجريب في إطار المسرح” إلى “الخروج عن سر اللعبة المسرحية”، ودخول إلى مصطلح خاطئ أصبح ينتشر كالنار في الهشيم وهو مصطلح “المسرح التجريبي”.
وعليه قال سوالمي: “يجب أن نحدّد المفهوم وما يجب أن يكون في إطاره فليس كل عرض خالٍ من النص نعتبره تجريبياً، ولا كل عرض يعتمد الإبهار البصري لتغطية ضعف النص أو الممثلين يعدّ عرضاً تجريبياً، بل ما يمكن القول عنه إنّه عرضاً يدخل في إطار التجريب المسرحي، وهو العرض الذي يحمل سمات المسرح الأساسية حتى ولو تجاوز النص في مفهومه التقليدي.
افتراض ما حدث فعلاً: تجديد في الأسلوب ومحافظة على المعنى
حاولت مسرحية “افتراض ما حدث فعلاً” التي أنتجها مسرح أم البواقي الجهوي (2012) عن نص الكاتب العراقي “عبد النبي الزيدي” (2002)، أن تكشف الغطاء عن الظلم بمفهومه الشمولي وخاصة الديكتاتورية السياسية، التي خلقت جوا مشحونا في الوطن العربي، فجعل الكاتب من نصه مخالجاً لشعور كل من يعاني من الديكتاتورية على مستوى العالم، إذ يقول الكاتب:” إنّ النص يحاول أن يقرأ واقع الشعوب المستلبة التي تحكمها الديكتاتورية…مفترضا أن ما فعلته السلطات القامعة هي جنون حقيقي، فذهب النص ليضع الحدث في مصحة مجانين.
من جهته، قدّم مخرج العمل “لطفي بن سبع” مع مجموعة ممثليه من المخضرمين والجدد، عرضاً فرجوياً لاقى استحساناً كبيراً أثناء عرضه، وقال: “الزيدي اندهش من طريقة عرض نصه على الخشبة وأبدى إعجابه الكبير بالرؤية الإخراجية التي قدمتها، بل وذهب إلى أنّه لم يعرف نصه، والنص المقدّم لم أكتبه بل كتبه لطفي بن سبع”.
وفي تعامله مع مسرحية (افتراض ما حدث فعلاً)، قام بن سبع بتغيير العديد من الوسائل الدرامية التي كانت موجودة في النص واستبدلها بوسائل بصرية أخرى تخدم العرض جمالياً وبصرياً، وذهب سوالمي: “هنا يكمن التجديد في العرض المسرحي، لأنّ المخرج لم يتبرأ من سطوة النص، بل قدّم رؤية فرجوية جديدة جعلت النص البصري يختلف في روحه عن النص المكتوب، ولكن المخرج ركّز على أنّ الأمر الذي جعله يتجرأ إبداعياً هو قوة الفكرة الموجودة في النص ذاته وكيفية طرحها”.
وأكّد بن سبع: “النص هو من يفرض نفسه علي، وليس أنا من يختار النص فافتراض ما حدث فعلا، فرض نفسه عليّ مدة ثلاث سنوات كاملة…..نظراً لقوة النص في طرح الفكرة”.
ورأى سوالمي أنّ “العرض المسرحي الجيد هو الذي يحمل نصاً له فكرة جيدة ووسيط موهوب يحمل هذه الفكرة إلى المتلقي وهذا الوسيط هو الممثل، وقد استطاع المخرج فعلاً من خلال إعداد الممثل، أن يُظهر لنا تلك الصراعات السلطوية والظلم الذي يعيشه الإنسان المعاصر وسطوة التكنولوجيا على الوعي الإنساني من خلال التعبير الجسدي للممثلين، فقد استطاع ومن خلال مجموعة من الأقمشة التي يتناوب الممثلون على حملها، من تجسيد صور بصرية غاية في الروعة تعبر عن الصراعات بين الحاكم والمحكوم وبين الظالم والضحية، مستعملاً تقنية المنظر المتعدد الأماكن، ليصوّر مشاهد في فضاءات متخيلة عديدة يجمعها منظر مسرحي واحد من خلال قمّاشة، معتمداً على تأثيث الفضاء الفارغ بأجساد الممثلين، فشكّلت أجساد الممثلين أكسسوارات وديكورات المسرحية”.
أسئلة التجربة
بحسب سوالمي، ظهرت تجليات التجريب والتجديد الإبداعي داخل أطر المفهوم المسرحي جلية في المسرحية من خلال الأسئلة التي أجاب عنها المخرج في عمله، فقد طرح مجموعة من الأسئلة مفادها ما الجديد الذي سآتي به في هذا العرض؟ ماذا سأفعل؟ هل سأضع جدران زرقاء خاصة بالمستشفى؟ هل سأضع أسرة للمجانين وأقوم بصبغ الكل باللون الأزرق؟ وأجلب الممرضة والطبيب وألتزم بما هو موجود في النص؟ ولكن ما الفائدة؟ وأين بصمتي الخاصة التي سأتركها..
وتابع سوالمي: “راودت هذه الأسئلة وأخرى ذهن وخيال المخرج فحرص أن يقدم تجربة جديدة استعان فيها بنظريات غربية في المسرح برزت من خلال التعبير الجسدي الذي نادى به مييرخولد والخشبة الفارغة التي نادى بها غروتوفسكي، لينتج لنا قطعة فنية رمزية لم يتعود المتلقي الجزائري على مشاهدتها، فلم يكلّف نفسه ولا الفريق الذي يعمل معه عناء تأثيث الفضاء المسرحي بالديكورات الواقعية الضخمة بل استعاض عن ذلك بأجساد الممثلين وقطع بيضاء من القماش شكلت مختلف فضاءات الأداء من بداية المسرحية إلى نهايتها، كما استعان المخرج كذلك بتقنية أخرى وهي “المسرح داخل المسرح”، واستعمل (الماشينيست) الذي يغيّر الديكور أثناء العرض، ففي أحد المشاهد وعند غضب الماريشال وبدأ بالحوار التالي: “أمِثلي يقال له هناك مشكلة؟ أمِثلي يقال له هناك أزمة؟ كارثة، مأساة فاجعة، نار، طوفان….فيجنّ جنونه ويحطّم الكرسي بعدما يرمي الممثلين برجله، نكتشف أنّ الممثلين هم من كانوا يشكّلون مجسّم الكرسي والطاولة، ليمنح لهم فرصة تغيير شكل الديكور في المنظر ذاته، فيتحول الديكور من كرسي وطاولة إلى مصطبة أو منبر عالٍ يقف فوقه الماريشال ملقياً خطابه للناس.
وتتوالى الأحداث على هذا النسق، إذ يقوم الممثلون بتغيير الديكور وتشكيله بأجسادهم، في نظام تراتبي سريع لا يُشعر المتفرج بالملل، بل يطرح لمحات فكاهية أثناء علمية تغيير الديكور، تجعل المتفرج يهيم بخياله ويشارك في تكوين الصورة البصرية المكونة للعرض المسرحي.
واستعمل المخرج الحلول الكاريكاتورية في تصرفات الشخصيات وتقليد الحالات بأصوات وحركات مضحكة كما جرى الحال مع الشخصية البطلة (الماريشال)؛ فمرة يقلد الكلب ومرة يقلد الدراجة النارية وكل ذلك برشاقة وخفة حركة ماتعة، وجعل الشخصيات الثانوية تقلّد بعض الحركات للزعماء العرب في رسالة رمزية قوية مستعملاً الإيماءة ولغة الإشارة، مستعيضاً بها عن اللغة الحوارية في كثير من المشاهد.
وعليه توصّل سوالمي إلى أنّ “مسرحية افتراض ما حدث فعلاً للمخرج لطفي بن سبع تحمل بين ثناياها بذور التجريب داخل مفهوم وأطر المسرح، فالمخرج ملّم بالتيارات الإخراجية العالمية واستطاع استثمار ملكاته المعرفية في هذا العمل، فاستطاع الوصول إلى نوع من التجديد على مستوى الأكسسوارات والأداء التمثيلي، إذ وظّف قطعاً صغيرة من القماش وجعلها تحمل أبعاداً سيميائية ورمزية متعددة، تصلح لأن تكون مُنطلقاً لبداية تجربة فريدة في المسرح الجزائري”.
جي بي أس: قفز على النص وإصرار على الإبهار البصري
تحكي مسرحية “جي بي أس” قصة فنان نحّات يحاول أن يكمل تمثالاً أمامه، لكنه في كل مرة يصل إلى نهاية العمل ينتابه شعور بأن المنحوتة التي أمامه ليست في المستوى المطلوب فيعيد نحت تمثال آخر، هذه المنحوتات تتمرد عليه وتبدأ في التحرك محاولة التحرر من شيء ما، لتبدأ هذه المنحوتات في التمرد من لحظة الولادة، ثم تتطور إلى مرحلة الدراسة فالمراهقة والشباب وصولاً إلى الشيخوخة ثم الموت، وفي كل هذه المراحل تنتظر قطار الأمل الذي سيأتي ليحررها من قيودها ولكن القطار لا يأتي، وكأنّ المسرحية تشبه الإنسان بالتماثيل التي لا حيلة لها والتي لا تستطيع التحرر من قيود المجتمع والدين والسياسة.
ويتصور سوالمي أنّ جي بي آس عرض استعراضي يندرج إن صحّ التعبير تحت مسمى الدراما الجديدة التي تتجاوز سلطة النص وقدسيته، بل وتحاول القفز عليه بالكلية لدرجة تتلاشى معه كل مفاهيم النص الدرامي العتيق في تأسيس العرض.
ويشرح: “المسرحية تعتمد الصورة البصرية أساسا لبناء الفرجة، مبقية على خيط رفيع من خط الفعل المتصل ومركزة على التعبير الجسدي والجماليات السينوغرافية مكتفية بالمايم في أغلب الأحيان كوسيلة تخاطب المتلقي، وكأنّ المسرحية تجسيد فعلي لمسرح ما بعد الدراما الذي أتى به أندريز فيرث، حين تنبّأ في نهاية ثمانينات القرن الماضي بتراجع سلطة المسرح الأرسطي لصالح أشكال ما بعد الدراما المعاصرة، فــ “جي بي أس” تتجاوز البعد الاستعراضي والإبهار البصري وتحاول إضافة على ذلك العمل على المستويات الطقسية، فتعود إلى أصول الاحتفالية في المسرح.
انحياز
بمنظور سوالمي: “انحاز العرض المسرحي بالكلية للجانب المشهدي السينوغرافي على حساب النص الدرامي، فالعرض تقريباً لا توجد فيه لغة منطوقة، بل هو عبارة عن حركات تعتمد في مجملها على التعبير الجسدي، إذ كوّن المخرج في ذهنه مجموعة من اللوحات البصرية بسلسلة أفكار (لوحة الولادة، لوحة المدرسة، لوحة المحطة…الخ)، ثم حاول الربط بين هذه اللوحات المشهدية في خط فعل متصل سرّه التمرد؛ فلوحة الولادة تمرد عن النحات ولوحة المدرسة تمرد عن القانون التربوي، ولوحة المحطة محاولة للتمرد عن الطابوهات السياسية والدينية وأمل في حياة أكثر حرية ونهاية بقيت فيها التماثيل الإنسانية في انتظار قدوم قطار الأمل الذي لم يأت؛ فتموت وهي تتابع دقات الساعة على حائط المحطة”.
ويشير الباحث إلى “تغييب النص الملفوظ في المسرحية تماما ويستعاض عنه بالكانفا، إذ اعتمد المخرج على تقنية الصمت في المسرحية، فالصمت قضية مسرحية قائمة بذاتها عند المخرج محمد شرشال، في أعماله السابقة، ما بقات هدرة (2017)، الهايشة (2015)، هذه الأخيرة اتجه فيها بدرجة أقل نحو إلغاء الفعل الملفوظ”.
وذكر سوالمي: “في مسرحية جي بي آس، اعتمد المخرج اعتماداً كلياً على حركات الجسد والإيماءة، فالمشهد الأول في المسرحية هو مشهد صامت بامتياز فيه حوار داخلي بين النحات وتماثيله التي ينحتها، ثم وظّف المخرج الصوت وليس الكلمة في الحوار الإيمائي بين الزوج والزوجة ثم بين الزوجة والقابلة، والأمر نفسه يتكرر بين المعلمة والمديرة،…وتسير المسرحية على هذا النسق من بدايتها إلى نهايتها، إلا في بعض اللحظات القليلة التي أراد المخرج أن ينطق فيها بعض الشخصيات، وقد أنطقها لحاجة جمالية مفادها أنه يستعمل تلك الألفاظ لكسر ريتم السكوت ثم العودة إلى السكوت مرة أخرى، كما استعان المخرج استعاضة عن الحوار المنطوق بالمؤثرات السمعية البصرية كصوت القطار، وساعة المحطة وبعض المؤثرات الأخرى المرافقة لحركات الممثلين”.
غرائبية الشكل الفرجوي
بناءً على ما تقدّم، يقول سوالمي إنّ “جي بي أس اعتمدت على التجريب بمفهومه الوظيفي، والمقصود بالوظيفي هنا الضرورات التقنية التي تفرضها هذه النوعية من المسرحيات، فقد شاهدنا بعض سمات المسرح الشرطي من خلال التعبير الجسدي، والطقوسية الفقيرة مع غروتوفسكي وخاصة في المشاهد التي احتوت الصرخات (صرخة الولادة، صرخة الموت، صرخة الألم…)، إذ عبّرت عن آلام الإنسان من لحظة الولادة إلى لحظة الوفاة.
وأردف: “استدعى المخرج في هذه التجربة مسرح اللامعقول كذلك، فقد ظهرت عبثية العرض منذ مشهد التمرد في البداية، إذ لم تتوقف بوادر اللامعقول في تحول المنحوتات، ولا من الأطفال المولودين حديثا ولا من اللقطات الساخرة، كما نشير إلى فكرة الانتظار العبثي التي أسس لها صموئيل بيكيت في أشهر مسرحياته في (انتظار غودو) الذي لم يأت، وفي المسرحية في انتظار قطار الأمل الذي لم يأت كذلك”.
ويظهر التجريب المسرحي – بحسب سوالمي – في عرض جي بي آس كذلك في الشكل الفرجوي، حيث “استطاع المخرج الانفتاح بالمسرح على بقية الفنون، وخلق علاقة مختلفة مع المتلقي مستعملا الغرائبية خاصة غرائبية القناع الذي أراد أن يحيل من ورائه إلى المسخ الإنساني الذي يرتبط دائما بتعالقات اجتماعية ودينية وإيديولوجية تحد من حرية الإنسان فيستحيل مسخا يشبه الأموات الأحياء، فالإنسان في المسرحية ضاعت ملامحه، ولم يعد يدرك هل هو إنسان أم مجرد آلة تتحكم فيها المادة والإيديولوجيا”.
ويضيف سوالمي: “ارتبط التجريب في المسرحية كذلك بتشكيل الفضاء المسرحي، إذ أعاد المخرج النظر في مفهوم المكان والزمن وخرج عن السينوغرافيا التقليدية إلى أماكن رمزية مستفيدا من التقنيات الحديثة في مجال الصوت والموسيقى والإضاءة، فبنى العرض على لوحات مشهدية تكاد تنفصل كل لوحة عن الأخرى، إذ لا يجمع بين المشاهد تطور زمكاني منطقي بل يربط بينها المفهوم الرمزي لآلام الإنسان وانتظاراته التي لا جدوى منها”.
ويعتقد سوالمي أنّ “المسرحية أثّثت لمفهوم ذاتي عند المخرج طالما اشتغل عليه، مؤداه ضرورة الخروج عن المفهوم الكلاسيكي للمسرح، ولكن هذا لا يعني أنّ المسرحية تجريبية بمفهومها العلمي، بل هي تجربة جيدة تقاطعت فيها سمات تيارات إخراجية متعددة، لم يكن المخرج مدركا لها أو على الأقل لم يعترف بالعمل وفقها، بل نطق اللاوعي الفني لدى المخرج فجرب التحرر من قيود التيارات الإخراجية ولكنه في الأخير قدم عرضاً فيه من البيو ميكانيكا واللامعقول وكوميديا ديلارتي، وطقوسية المسرح الشامل سواء أدرك المخرج ذلك أم لم يدركه”.
المفهوم الجديد
يرى سوالمي أنّ تجربتي (افتراض ما حدث فعلاً) و(جي بي أس) التقيتا في كونهما “استطاعتا أن تقدّما مفهوماً جديداً للمشاهدة المسرحية في الجزائر، فتجاوزت الأولى قداسة النص وحافظت على سلطته، وحاول فيها المخرجان أن يقدّمان مفهوماً مغايراً للمسرح الجزائري، فجرى التجديد في تقنية الإخراج وتجريب المزج بين مجموعة من التيارات الإخراجية، فكانت النتيجة جمالية بامتياز فيها من التجريب الإيجابي الذي يخدم جمالية العرض معترفا باستناده على أهم التيارات الإخراجية التجريبية العالمية”.
وحاولت “جي بي أس” – يضيف سوالمي – “القضاء على مفهوم النص التقليدي، ونجحت في تجاوز قدسيته وكذا سلطته، فبني العرض على الصورة البصرية متجاهلا عناصر النص الدرامي ليخرج لنا صورة بصرية جميلة، ولكن أوقعت المسرحية في فخ الرمزية المبالغ فيها؛ فلم يظهر فيها الصراع جلياً ولا تمّ الإفصاح عن أبعاد الشخصيات، كما أن انعدام الحوار جعل من المتلقي يبذل جهداً كبيراً في فهم رسالة المسرحية، وما شفع لها هو قدرتها على شد انتباه المتلقي لما يشاهده من صور جمالية على خشبة المسرح، فكانت تجربة جيدة في الإبهار البصري”.
الهروب إلى مصطلح (المسرح التجريبي)
خاض سوالمي في ظاهرة طغت على المسرح الجزائري وهي ظاهرة “الهروب إلى مصطلح المسرح التجريبي” الذي لا أساس له من الصحة، فالقول بهذا المصطلح يتنافى والمعنى العلمي والأكاديمي لمصطلح التجريب المسرحي، فالتجريب المسرحي يكون داخل المسرح باعتباره فناً قائماً بذاته، لكن (المسرح التجريبي) هو مصطلح غريب يُخرج المسرح من كينونته ويجعله وسيلةً لا هدفاً وغاية.
ولاحظ سوالمي أنّ مجموعة من الأعمال المسرحية المعاصرة في الجزائر “تحاول الهروب من إكراهات الخشبة نظراً لظروف إما فنية أو تسويقية أو اقتصادية لتنتج أعمالاً، إما مستهلكة أو لا ترقى للمستوى المطلوب فكرياً وفنياً، وحتى وإن كانت لها جمالية سينوغرافية في بعض الأحيان فإنها تبرّر الضعف الفكري للعرض بالهروب نحو مصطلح المسرح التجريبي، مستفهماً: “هل التجريب يقتضي تخريب المعنى الجمالي والفكري للمسرح؟”.
حلاق إشبيليا… اقتباس أم جزأرة؟
قدّم مسرح عنابة الجهوي (ديسمبر 2023) مسرحية “حلاق إشبيليا” عن نص الكاتب المسرحي الفرنسي بيير بومارشيه، بتوقيع إخراجي وسينوغرافي لـ “حبال بوخاري”.
وتناول العرض، كوميديا موسيقية اشتهرت في القرن الثامن عشر وأعيد إنتاجها في القرن التاسع عشر على شكل أوبرا موسيقية، تحكي قصة رجل من الطبقة البورجوازية “الكونت ألما فيفا” يرغب في الزواج من الشابة اليتيمة “روزين”، ولكن وصاية الطبيب “بارتولو” عليها تقف عائقاً بينه وبين محبوبته، لأنّ هذا الطبيب يريد الزواج منها طمعاً في ثروتها، غير أنّ الحلاق “فيغارو” ونظراً لاقتناعه بحب الكونت والشابة يقرّر مساعدتهما ليتمكن الكونت في النهاية من الزواج بمعشوقته.
وجاء في بحث سوالمي: “استطاع الممثلون أن يقدّموا لنا عرضاً ماتعاً عاد بنا إلى كلاسيكيات القرن الثامن عشر، خاصة وأنّ المخرج استطاع أن يتحكم في التشكيل الحركي للممثلين على خشبة المسرح، كما أنّه استطاع التعامل مع الأداء الحركي والتمثيلي للممثلين، وأخرج من كل ممثل موهبة أدائية يمكن البناء عليها مستقبلاً، خاصةً الممثل أسامة جرورو الذي قدّم دور الكونت ألما فيفا، والذي قال عنه المخرج إنه صعد إلى خشبة المسرح لأول مرة، وكذلك الممثل الذي مثّل دور الحلاق فيغارو، حيث أدى الدور بامتياز، وما يُحسب للمسرحية كذلك هو قدرة المخرج على توظيف موسيقى الحوزي التي تشتهر بها مدينة عنابة، توظيفاً درامياً وغنائياً في المسرحية، ما جعل الأخيرة تنال جائزة أحسن موسيقى في المهرجان الوطني للمسرح المحترف سنة 2023”.
لكن سوالمي يلاحظ “استعمال العرض لمصطلح الاقتباس، فقد شهدنا على البطاقة التقنية للعرض ترجمة واقتباس سعيدة قاسمي. فهل فعلاً كان العرض مقتبساً؟ أم هو مجرد جزأرة للنص الأصلي؟”.
ويؤكد سوالمي: “عند متابعة العرض نجد أن الشخصيات هي نفسها لم يتم تغيير أسمائها فـ “ألمافيفا” بومارشيه بقي “ألمافيفا” في العرض الجزائري، و”روزين” بقيت “روزين”، و”فيغارو” بقي “فيغارو”… وكل الشخصيات الأخرى بقيت بأسمائها، وحتى الأحداث هي الأحداث نفسها في المسرحية الأصلية والأمكنة نفسها، وشرفة الأحداث الرئيسية نفسها، ومواقف الشخصيات لم تتغير، فأين الاقتباس في المسرحية؟ !
وذهب سوالمي: “لو كان العرض مقتبساً لوجدنا مفهوماً جديداً، بدايةً من عنوان المسرحية وانتهاءً بأسماء الشخصيات، وفي هذا تخريب للمفهوم الأكاديمي والعلمي لمصطلح الاقتباس، ولكن فريق العمل أصرّ على وضع هذا المصطلح على واجهة البطاقة الفنية للعرض”.
وأحال الباحث على أنّ “العرض في تكويناته البصرية اقتبس السينوغرافيا إلى حد كبير من عرض آخر من إنتاج المسرح الملكي بروكسل وإخراج جيرالد مارتي، حيث نلاحظ تشابهاً كبيراً في رسم الشرفة وغرفة الضيوف، وحتى الأزياء كانت مقتبسة تقريباً من العرض نفسه، وما اختلف بين العرضين هو الألوان سواء ألوان الديكور أو الأزياء المسرحية. وبعض التمفصلات الأخرى كالأكسسوارات والموسيقى التي كانت إبداعاً جزائرياً صِرفاً، قدمها ابن الفنان الراحل حمدي بناني الفنان كمال الدين بناني”.
ويخلص سوالمي إلى أنّ “المسرحية في شقها الإخراجي أبدعت في موضعين هما الأداء الموسيقي والأداء التمثيلي لبعض الممثلين، وكذا التشكيل الحركي، أما على المستوى النصي فلا يوجد أي تجديد على النص، سوى أنّ الكاتبة أو المخرج قد أنطق شخصيات النص الأوروبي بلهجة جزائرية، وعلى المستوى السينوغرافي كان العرض مقتبساً إلى درجة كبيرة من عروض أجنبية سبقته، ولو كان الأمر يتعلق بمستوى تعليمي تكويني لكان الأمر مقبولا، ولكن العرض أنتج من طرف مسرح جهوي محترف، لذا كان لزاماً أن يكون التجديد حاضراً على كل مستويات العرض، وإلاّ فإنه سيصبح تخريباً بالمفهوم الأكاديمي”.
ثورة… إبداع ركحي وتيه نصي
في مسرحية “ثورة” التي أنتجها مسرح سيدي بلعباس الجهوي (أوت 2023)، انطلق نص يوسف ميلة وهشام بوسهلة من نصي “الجثة المطوّقة” و”الأجداد يزدادون ضراوة” للدراماتورج الراحل كاتب ياسين، أما النص الأول فهو غوص عميق في واقع المجتمع الجزائري والمأساة التي عاشها قبل الثورة التحريرية، وكُتبت “الجثة المطوقة” بلغة راقية وشعرية ميزها الصراع بين قوتين غير متكافئتين قوة وراءها الحلف الأطلسي وأخرى تدافع الموت من أجل الحرية، أمام موضوعها فكان أحداث الثامن ماي 1945 في مدينتي خراطة وسطيف.
وترمز المسرحية من خلال عنوانها إلى جبروت الأم الجزائرية الثكلى وهي تحتضن جثث أبنائها، أما أبطال المسرحية (لخضر، نجمة، مارغريت) فهم رموز لحب الوطن والإنسانية، بينما تشير شخصية الطاهر في المسرحية إلى الخيانة، فهو من وشى بلخضر لقوات العدو، وبذلك فالجثة المطوقة هي محاكاة تسجيلية لأحداث تاريخية استند فيها كاتب ياسين على معايشته لتلك اللحظات، فكانت دليلاً فنياً قاطعاً على جرائم فرنسا، وقطعة فنية ثائرة ضد الظلم والاستبداد.
أما النص الثاني “الأجداد يزدادون ضراوة” فهو امتداد لمسرحية الجثة المطوقة؛ إذ هي ملحمة تاريخية يشرح فيها المؤلف أعظم المحطات التاريخية والثورية إبان الاحتلال الفرنسي الغاشم، وهي نداء إلى الالتحاق بمسيرة الأسلاف وبلوغ الوعد الصادق الذي خطّط له شهداء الثورة والجزائر، وهي كذلك محاكاة صادقة لحقيقة الشعب الجزائري المجاهد وصورة واضحة لما تكبّده من خيانة وتآمر.
واستعمل عرض “ثورة” مجموعة من الأساليب الإخراجية، فقد اعتمد على مدرستين كبيرتين في الإخراج هما الواقعية النفسية وبعض الخصائص من المسرح الملحمي.
من أخرج العرض؟
بحسب سوالمي: “تأسس العرض على المأساة التاريخية، واستعمل العديد من الشفرات التي تحيل إلى التاريخ والحاضر والمستقبل، محاولا انتقاد الانقسامات في أي ثورة ومآلاتها، وكأن مصمم العرض يحفر في حاضر المجتمعات العربية، بذهنية رمزية، إذ قدم لنا الصراعات الإيديولوجية وتسببها في وأد أي ثورة إنسانية تثور على الظلم والاستبداد محاولا استنتاج مآلات الفشل الحالي للدولة الوطنية من خلال تحميل المسؤولية للصراعات التاريخية، واستغلال المستعمر القديم لهذه الصراعات خدمة له ليبقى متحكماً في أذهان الأمة حاضراً ومستقبلاً، لكن يبقى السؤال من أخرج المسرحية؟، فهل هو مصمم العرض أم المخرج المنفّذ؟، والسؤال الأكثر إلحاحاً: ما المقصود بمصطلح مصمم العرض في المسرحية؟
وتبدأ المسرحية باستحضار نص كاتب ياسين الأجداد يزدادون ضراوة من خلال استنطاق لخضر بطل المسرحية بلغة عربية فصحى، ثم يتم الانتقال إلى لوحة أخرى، وفيها مجموعة من المجاهدين وهم يتحدثون عن الوطنية والخيانة في استدعاء لشخصية الطاهر العميل في المسرحية، واستدعاء شخصية كلبوت الرامزة إلى تاريخ الأمة، ثم يتم استدعاء نجمة عن طريق فتح البوابة التي تتوسط خشبة المسرح، فتحرض نجمة لخضر على الجهاد والموت من أجل الوطن، وتقول له بأنه هو الوريث الشرعي لهذه الأرض. ولعل أجمل ما في المسرحية هو تلك البوابة التي تتوسط خشبة المسرح وتحمل بعداً عقائدياً ورمزياً، من خلال تصميمها على هيئة مئذنة يدخل من خلالها الممثلون، فتحيل إلى الموت والحياة مرة وإلى الخلفية العقائدية للمجتمع الجزائري مرة أخرى.
بعدها يتم استدعاء شخصية ماريان، التي تحيل إلى الاستعمار، فتهدد لخضر الذي لا ينصاع لتهديداتها فتأمر بإعدامه، ثم تذهب لنجمة وهي تبكي موت البطل رغم أنها هي من قتلته.
يستدعي صناع العرض شخصيتي حسان ومصطفى من مسرحية “الأجداد يزدادون ضراوة، اللذان يتصارعان مع العميل الطاهر فيقتلانه انتقاماً لموت لخضر، ولكنهما يتصارعان بينهما من هو الوريث الحقيقي لهذه الأمة، ويشنق أحدهما الآخر، في تلميح واضح لمرحلة العشرية السوداء في الجزائر.
محاولة المزج بين وضعيتين
حاول نص “ثورة” المزج بين وضعيتين أساسيتين في أعمال كاتب ياسين من خلال استدعاء شخصيات متباينة من المسرحيتين، لخدمة فكرة العرض وهو الصراع الإيديولوجي بين الإخوة الأعداء، ودوره في تفك الدول الوطنية.
تظهر ملامح التجريب في مسرحية ثورة من خلال النص، فقد اعتمد الكاتب على ركيزتين لبناء نصه الدرامي وهما الجثة المطوقة والاجداد يزدادون ضراوة، ليظهر فكرة الصراعات الإيديولوجية التي تحكم لا محالة على أية ثورة بالفشل، ولكن ما يلاحظ على النص الجديد أنه لم يستطع أن يعطي المبررات الفنية للصراعات في المسرحية، فموت لخضر جاء مفاجئاً ولم يكن له مبرره الدرامي في حين أن موت البطل لخضر في النص الأصلي لكاتب ياسين كان مبررا دراميا وجاء نتيجة خيانة الطاهر، هذه النهاية جعلت سوالمي يقول إنّ “الكاتبين ولأنهما استحضرا هذه الشخصية من مسرحية الجثة المطوقة والتي تحمل فكرة الثورة على الظلم، لم يستطيعا أن يجد لها مبرراً في إظهار فكرة الصراعات الإيديولوجية بين الإخوة الأعداء فتخلص منها دون تفكير في المآلات الدرامية والفنية للمسرحية”.
ويشدّد سوالمي على أنّ “شخصية ماريان التي تمثّل القوى الاستعمارية، فلم نجد لها صراعاً ظاهراً مع أية شخصية أخرى، ثم أنّ هذه الشخصية تم استعارتها في بنائها الدرامي من شخصية مارغريت في مسرحية الجثة المطوقة، ولكن بعدها النفسي والاجتماعي يختلف تماماً عن بُعد الشخصية الأصلية لكاتب ياسين، وكأنّ الكاتبين استعارا الشخصية ووضعاها في وعاء لا يستطيع حملها، فلم تظهر صراعاتها ولا وضعيتها الأساسية. نفس الشيء بالنسبة لشخصية مصطفى المجاهد الذي استطاع الهرب من محاولة اغتياله من طرف رفيق دربه في الجهاد، ولكنه في الأخير وبدون مبرر درامي يستسلم لنهايته المأساوية ويسمح لمصطفى بشنقه”.
وينتهي سوالمي إلى أنّ “تجريب المزج بين نصين من أكثر نصوص كاتب ياسين حمولة للأبعاد الإيديولوجية والسياسية ليس بالسهولة بمكان، فالجثة المطوقة تحمل فكرة الثورة والأجداد يزدادون ضراوة تحمل فكرة الانتقام من الخيانة والصراعات من أجل السلطة، هما فكرتان متناقضتان تماماً، هذه الأفكار ليس من السهولة تجسيدها مسرحيا وفق نسق النصين الأصليين، فما بالك بنصٍ ثالث أخذ أبطال المسرحيتين ووضعهم في مواجهة رمزية، كانت جميلة إخراجياً ولكنها خرّبت المعنيين الجمالي والفكري للنصين الأصليين “الجثة المطوقة والأجداد يزدادون ضراوة”، فظهر الحوار مهلهلاً وكثُرت الثرثرة والسرد على حساب الفعل والصراع”.
ويقدّر الباحث أنّ “المسرحية كانت مفتوحة على عديد التأويلات لما حملته من تجريب على مستوى النص حتى وإن سقط في متاهة التخلص من اللوحات المشهدية، وإن تمّ إعادة النظر في البناء الدرامي له، فإنه سيحيل إلى مدلولات فنية وجمالية راقية يمكن أن تحمل العرض إلى آفاق رحبة، شرط أن يكون التجريب في النص الدرامي مبنياً على أسس فكرية وجمالية، والأهمّ من هذا وذاك درامية تعطي كل شخصية حقّها”.
5 نتائج
رصد الباحث الحبيب سوالمي تسع نتائج، توالياً:
– قام التجريب في المسرح الجزائري على ضرورات وظيفية ومجتمعية، فظهرت العودة إلى التراث مع ولد عبد الرحمن كاكي لظروف اجتماعية وسياسية كانت سائدة في المجتمع الجزائري، كما كان ظهور المسرح التسجيلي مع كاتب ياسين وليد ظروف موضوعية وأخرى ذاتية عند الكاتب المخرج في حد ذاته، وتتعلق الموضوعية بظروف المجتمع الجزائري قبل وبعد الاستقلال، والذاتية بالرؤى الإيديولوجية التي يحملها عقل كاتب ياسين، والظروف نفسها أظهرت مسرح الحلقة والقوّال مع عبد القادر علولة.
– ظهرت ملامح التجريب جمالياً وفنياً في المسرح الجزائري المعاصر من خلال نماذج مسرحية استثنائية حازت على جوائز وطنية وعربية، وكانت مثار جدل ونقاش فكري وفني، نذكر منها مسرحيتي “افتراض ما حدث فعلاً” و”جي بي آس”.
– ظهرت ملامح التجريب المسرحي في مسرحية افتراض ما حدث فعلا من خلال الاشتغال الدراماتورجي على النص، واستغلال فن الكاريكاتور، والاشتغال على تعدد الأمكنة في المنظر الواحد، والاستعانة بأسس التيارات الإخراجية المعاصرة عن وعي ودراية بذلك.
– ظهرت ملامح التجريب في مسرحية جي بي آس من خلال تحطيم قدسية النص، بل وتجاوز كل عناصره التقليدية والعمل وفق مقاربات الدراما الجديدة أو ما بعد الدراما، ولكن عدم اعتراف المخرج بتأثره بالتيارات الإخراجية العالمية مثل مييرخولد ومسرح العبث، يدفع للقول إنّ التجريب في المسرحية في بعض عناصرها الإخراجية كان عن غير وعي.
– من بين عناصر التجريب في المسرح المعاصر الاعتماد على الاقتباس، ولكن ما لوحظ على مسرحية “حلاق إشبيليا” هو أن العرض كان جزأرة في اللغة فقط، ولم يكن له علاقة بالاقتباس، على الرغم من أن فريق العمل وضع على البطاقة الفنية للعرض مصطلح اقتباس وهذا تكسير فني رغم الجمالية البصرية للعرض.
– تعدّ مسرحية ثورة لمسرح سيدي بلعباس الجهوي تجريباً فنياً على مستوى النص من خلال الاشتغال على نصوص كاتب ياسين وطرح فكرة مستنبطة من إيديولوجية الكاتب الأصلي، ولكن تناسي الأسس الدرامية التي يقوم عليها النص الدرامي، جعل النص الجديد يتيه بين فكرتين ولم يستطع إظهار ما يريد قوله وهذا تكسير للأصل، حتى وإن كان الاشتغال الإخراجي جمالياً إلى حدٍّ ما.