الإخراج المسرحي بين الأثر والتأثر: 7 حقائق تصل الراهن بالقادم
قدّم الملتقى الفكري «الإخراج المسرحي بين الأثر والتأثر» يومي الأحد والاثنين، الثالث والرابع مارس 2024، سبعة حقائق تخصّ راهن وقادم الحدود الممكنة بين ما يُبدع وما يُتّبع في الإخراج المسرحي، وأسئلة الهوية والإبداعية وظلال التأثير والتأثر في عالم تقاربت فيه المسافات بين البلدان والثقافات.
بمقرّ منتجع ماربيلا بالشارقة، استعرض الباحث المغربي د. كمال خلادي عروض المخرج في الألفية الثالثة وربطها بأربع نقاط تأسيسية تتصل بتحويل النص إلى العرض وطرائق العمل.
وفي ورقته الموسومة “أي أثر للمخرج المسرحي في عروض الألفية الثالثة؟”، لفت خلادي إلى أنّ المسألة موصولة بالفكرة الإبداعية للمخرج والعمل التشاركي لأعضاء الفريق، مقدّراً أنّ الإشكال يستدعي نقداً دائباً وخلخلة الموجود، طالما أنّ الأمر يتعلق بـ “مسرح الممكن لا المسرح الكائن”.
وفي جلسة أدارها الفنان الإماراتي فيصل الدرمكي، تساءل خلادي عن كيفية تدبير علاقات السلطة داخل العرض المسرحي، مسجّلاً أنّ المسرح فضاء سلطة بامتياز، بحكم سلطة المعاني التي يقرّها المسرح داخل الفضاء العام، بعيداً عن الطرح القائل إنّ “مهنة المسرح صارت متقادمة واستنفدت كثيراً من طاقاتها الإبداعية”.
وتابع خلادي: “عربياً نحن أمام حالة تداخل حاد، والمسرح يعاني من العسر ذاته مع تضخم التصور المصدّر للجمهور، بجانب تضخم عملي يضع المسرح موضع التنفيذ وفق نظام المعنى على حد طرح المسرحي الفرنسي باتريس بافيس”.
وسجّل الأكاديمي المغربي أنّ إعادة قراءة تطور المسرح يجعلنا أمام حقيقة ما قدّمه الممثلون للمسرح، وما قدّمه للجمهور بحسب مقاربة برنار دوت، وما قدّمه الكتاب في حالتي بيكيت ويونسكو) وفق ما أنجزه جاك كوبو.
وأيّد د. خلادي تمكين المخرجين من أفكار ووسائل عمل جديدة، متصوراً أنّ فكرة التعدّد أبعدت المخرجين عن المقاربة العمقية للمسرح، وألّح على أنّ المسرح يفرض أن نفكر معاً أن نحلّل معاً، أن نفشل معاً وأن ننجح معاً.
وأبرز المتحدث الإحالات الجديدة بمنظور المخرجة الفرنسية “أريان منوشكين”، والعبرة في الفروق بين المهمة والرؤية، قائلاً إنّ المسرح حدث اجتماعي قبل أن يكون فنياً، مستخلصاً أنّنا “أمام حالة تضخم وتمركز حاد ومتطور”.
وركّز د. خلادي على أهمية التدريب المسرحي الذي يفعل الكثير، فهو الذي يكثف الفكرة المسرحية العميقة، وينتقل من الانقلاب الهوياتي إلى تدبير علاقات السلطة في كينونة العمل، ما يفرض على المخرج المزج بين التدبير والهشاشة وعدم الهروب من اللايقين.
وانتهى د. خلادي إلى انتقاد تغييب الدراماتورج عربياً، مع أنّه يلعب دوراً فارقاً في التعدّد والاختلاف، ومحاورة المعاني الموجودة والانتصار إلى معنى المسرح الكبير: كيف نكون معاً؟
خصوصية أدوات المسرح وتطويرها المستمرّ
رأى الأستاذ هشام كفارنة (سوريا) أنّ المهرجانات المسرحية في كثير من البلاد العربية تشكّل مساحات رحبة للقاء الفنانين العرب وفضاءً صحياً واسعاً للتعارف عبر تقديم تجاربهم وتبادل الخبرات، لكنه أشار إلى التأثيرات السلبية التي تتركها أحياناً عروض المهرجانات ونتائج المسابقات فيها على مفاهيم وفكر بعض المخرجين الذين يستسلم بعضهم بشكل ملفت لما تتوصل إليه وتقرّه لجان التحكيم.
وفي ورقته “الإخراج المسرحي بين الهوية الذاتية وعوامل الانزياح في السيرة المهنية”، ركّز أ. كفارنة على أنّ بعض المخرجين الذين يحظى أحد عروضهم بالتتويج في دورة مهرجان معين، يعتقدون أنّ النموذج الذي تمّ تتويجه هو المثال الأعلى الذي يحاولون الالتزام بأسلوبه لاحقاً، فيقعون في فخ التكرار كما لو كان لديهم خطة إخراجية واحدة لكل الأعمال، وغاب عن ذهن البعض منهم أنّ اللجان ليست ثابتة، وأن ثقافة وخبرات ومزاج لجنة تحكيم، يرتبط ببيئات أعضائها المختلفة وتمايز تحصيلهم العلمي.
أ. كفارنة أقرّ بما تشكّله بعض حالات التواصل مع المسرح الغربي من حالة إيجابية أحياناً قد تسهم في الإطلالة على آفاق جديدة، لكنّه تحفّظ بشأن ما يطبع تجارب عدد من المخرجين الذين يجنحون إلى نقلٍ شبه حرفي، ما يفرز حالة اغتراب عن محيطهم، وهم غافلون أو متغافلون عن ضرورة أن يكون ذاك الذهب الافرنجي مسبوكاً عربياً.
وشدّد كفارنة على أنّ الإبداع لدى المخرج ناجم عن تجاوز ما راكمه باجتهاده ودأبه عبر مسيرته الفنية بل والحياتية وما اكتنزه من معرفة وثقافة وخبرات ليفتح بها ولها آفاقاً أرحب وفضاءات جديدة مبتكرة، في حين تخلق التململ لدى المتلقي إن بدت مألوفة مكررة ممجوجة وتؤدي إلى أن ينفض عنها جمهورها والانشغال عنها بغيرها من دون أي تردد.
ونوّه أ. كفارنة إلى الإشكالية القائمة منذ القدم بين مبدع الأثر ومن ينبري لتناوله بالنقد، وذاك ما دفع اليوناني أرسطو فانيس لكتابة نص “الضفادع” بما يتضمنه من إشارات لهذه الإشكالية.
ورافع أ. كفارنة للنقد الموضوعي الذي يعدّ عاملاً أساسياً يساهم في تحقيق بعض الإنزياحات في تكوين هوية المخرج وسيرته الفنية وذائقته الراقية، ما يؤسس لامتلاك روائز ومعايير تمكّن الناقد من الارتكاز عليها والانطلاق منها في مقاربة عمل فني ومحاولة تفكيكه وتحليله وربما إعادة تركيبه بقصد الوصول إلى مقولته ومقاصده وليس بغية اصطياد النقائص للتشهير والتجريس والتشويش بل بنيّة تسليط الضوء عليها لتمكين فريق العرض من تجاوزها بعيداً عن محاولات الإساءة والتشفي وقفزات التعالي على صاحب الأثر الفني.
وفي مقابل إشارته إلى انزلاقات بعض “المتطاولين”، ألّح أ. كفارنة على وجود الكثير من أصحاب الأقلام النظيفة وهم ركنٌ أساس من أركان بناء المنجز الإبداعي، لذا يقتضي أن يتحلى المخرج بالحكمة والمقدرة على التمييز بين محبٍ يسدي النصح ويشير إلى الأخطاء بغية تخطيها بكل ود، وبين مُدّعٍ يسعى إلى هز ثقته بنفسه وبفريقه.
وتطرّق أ. كفارنة إلى معاناة بعض العروض المنتجة تحت مظلة المؤسسات الحكومية أو الخاصة الراعية، من هيمنة الايديولوجيات التي تحكم بنية المؤسسات أو انتماءات الرعاة ومطالبتهم المبدع بالترويج ما أمكن وبأشكال مختلفة ونسب متفاوتة لشعاراتهم وأفكارهم ويتم ذلك أحيانا بطرائق مقحمة في بنى العروض، فتحضر الوصاية بشكل مسرف وسط غياب ملحوظ للدعم المادي للمسرح، فيعلق المخرج ومعه أسرة العرض في شباك السؤال الوجودي: هل يكون العرض أو لا يكون، عدا بعض الاستثناءات للكثير.
وأقحم أ. كفارنة تأثيرات الجمهور، في ظلّ ما يلفّ عمليتي التلقي والتفاعل وما يكافئها من استيعاب واعٍ للتلقي وإظهار ردة الفعل المناسبة دون الوقوع في المغالاة والتعبير الفوضوي لدى فريق من الجماهير، مما يشكّل بعض الإحباط لدى الفريق ويجعل المخرج يقع في حيص بيص ويشككه الأمر بإمكانياته وقدرته على خلق الحالات الدرامية المحكمة والتي تستدعي تلقياً عاماً آمناً.
وخلُص أ. كفارنة إلى ضرورة أن يظل المخرج مؤمناً بذاته واثقاً بنفسه راعياً محصناً ضد كل ما يمكن أن يعيق حركته إلى الأمام، متعاوناً مع أسرة العرض من ممثلين ومساعدين وفنيين وأن تكون علاقته بهم معتمدة التبادل الإبداعي وأن يولي عمله العناية الفائقة للارتقاء المستمر بما يقدمه، وأن يشتغل على خصوصية أدوات المسرح وتطويرها باستمرار، بحيث يصعب أن تنافسه عليها بقية الفنون ومن أهم هذه الخاصيات التي ينفرد بها المسرح، وكما يقال عنه إنه كان وسيبقى دائماً فن الآن والهُنا.
وفي تعقيباتهم، أجمع الأكاديميون جمال ياقوت وسامح مهران وإبراهيم نوال وحبيب بوخليفة وغيرهم على استبعاد فكرة التأثير النسقي والنأي براهن المخرج عن الدكتاتورية.
سؤال الاستقلال
في ورقته “المخرج المسرحي… بين الإبداعية والاحترافية والمحاكاة، قراءة في راهن المشهد العربي، طرح الباحث والمخرج سيف فرشيشي (تونس)، تطور مسار الإخراج تاريخياً، وغياب أي تكوين مستقل للإخراج بذاته في فرنسا، مشيراً إلى أنّ تهميش الإخراج يعود إلى ألفي سنة بعد ميلاد المسرح الغربي، وما لفّ ثورات الآلة والتكنولوجيا والرقمنة.
واستفهم أ. فرشيشي عن إمكانية إعلان استقلال الإخراج، وسط الدعوات الغربية الحديثة إلى إعادة تعريف المسرح، متحدّثاً عن صعوبة تحديد أثر واضح للإخراج منذ المفاهيم المعرفية المسرحية التي ساقها أندريه أنطوان وفاغنر وستانيسلافسكي ومييرخولد، وما تلا ذلك من انقلاب مييرخولد على معلّمه ستانيسلافسكي.
ولاحظ فرشيشي أنّه بعدما ظلّ الإخراج “فناً هجيناً”، بدأ عصر المخرج المسؤول الأول عن العرض المسرحي، وجرى ترجمة ذلك على مستوى كل العناصر الركحية، وبرز اتجاهان: المخرج كمجرّد معبّر عن روح الكاتب، أي أنّ المخرج مصمّم لا يتجاوز النص،
والمخرج المفكّر أو المجرّب أو المخبري الذي يطرح خطاباً ركحياً يتحدث منذ لحظة اختيار النص.
وفي تعاطيه مع حالة تونس التي ارتبطت بالتعليم الحرفي على الطريقة الفرنسية، أدرج فرشيشي خصومة محمد إدريس أهم مخرجي تونس وأحد أهمّ الكتّاب هناك، محمود المسعدي، وتشديد الأخير على أنّ إخراج إدريس لم يمثّل نصّه، فقام إدريس بتجاوز نص المسعدي، وهو منعرج – في نظر فرشيشي – حدّد خط المسرح التونسي ونتاجات فاضل الجعايبي والمنجي بن براهيم وغيرهما.
وقدّر أ. فرشيشي أنّ غالبية المخرجين العرب “تقنيون جيدون قادرون على وضع النص على الخشبة لكنهم غير قادرين على إنتاج أعمال إبداعية جيدة”، مستثنياً ثلاثة أو أربعة مخرجين دعّمتهم بلدانهم مثل فاضل الجعايبي الذي مكّنته بلاده من “الحقّ في الخطأ”.
الحالة الجزائرية: خطوط وظيفية ومجتمعية
تطرّق د. الحبيب سوالمي (الجزائر) إلى مفهوم التجريب في الممارسة الإخراجية، وارتساماتها في الحالة الجزائرية، بالاتكاء على التيارات الإخراجية العالمية والنتائج الفنية والفكرية التي ترتبت عنه في الممارسة المسرحية المعاصرة.
وفي ورقته “التجريب في الإخراج المسرحي بين التأثير والتأثر… دراسة في التجربة الجزائرية”، تناول د. سوالمي تجربة مواطنه الراحل عبد القادر ولد عبد الرحمن (كاكي) الذي أخذ على عاتقه التجديد على مستوى النص المسرحي واعتمد على مفهوم التراث لإحياء الهوية الجزائرية مستعملاً إياه لانتقاد مجموعة من العادات والترسبات الاجتماعية والعقائدية في الجزائر، لينتج لنا أعمالا مسرحية مثل بني كلبون والقراب والصالحين، آخذاً سمات المسرح الملحمي كوسيط فني ليعيد إنتاج مسرح محلي يهدف إلى تنوير الرأي العام الجزائري بضرورة الحفاظ على الهوية الجزائرية.
وتطرّق د. سوالمي حالة عبد القادر علولة الذي اعتمد على مفهوم الحلقة والقوال وهي مظاهر فرجوية كانت منتشرة في الأسواق والساحات الجزائرية حاول مسرحتها، فأدخلها إلى العلبة الإيطالية أحياناً ثم خرج بها إلى المساحات العامة، مراهناً على الفضاء المفتوح والذي استعمل فيه جماليات بصرية بسيطة بدل الديكورات الضخمة.
وانتقل الأستاذ في جامعة تلمسان الجزائرية إلى ما يطبع المشهد المسرحي في بلاده حديثاً، من ضجيج التجريب والخروج عن المفهوم الدرامي للمسرح والدخول في تجربة ما بعد الدراما والاعتماد على الصورة المشهدية بدل الصورة الحوارية، فظهرت مجموعة من الأعمال تدّعي أنها تقوم على التجريب من أجل التجديد في صلب المفهوم المسرح، وتحوّل الأمر – بحسبه – من تجريب في إطار المسرح إلى الخروج عن سر اللعبة المسرحية ودخول إلى مصطلح خاطئ أصبح ينتشر كالنار في الهشيم وهو مصطلح المسرح التجريبي.
وقدّم د. سوالمي مسرحية “افتراض ما حدث فعلاً” (2012) لمسرح أم البواقي الجزائري، نموذجاً لتجديد الأسلوب والمحافظة على المعنى، كما أشار إلى القفز على النص والإصرار على الإبهار البصري في مسرحية جي بي آس التي أنتجها المسرح الوطني الجزائري (2019)، وهما تجربتان تقاطعتا في إنتاجهما مفهوماً جديداً للمشاهدة المسرحية في الجزائر، فتجاوزت الأولى قداسة النص وحافظت على سلطته، بينما حاولت الثانية القضاء على مفهوم النص التقليدي، وتجاوز قدسيته.
وقارب د. سوالمي أحدث نتاجات المسرح الجزائري، ويتعلق الأمر بمسرحية “حلاق إشبيليا” التي أنتجها مسرح عنابة الجزائري (2023)، وهو عرض لعب على وتر الاقتباس من حيث العنوان وأسماء الشخصيات، والتكوينات البصرية، حيث اقتبس السينوغرافيا إلى حد كبير من عرض آخر أنتجه مسرح بروكسل الملكي.
وذهب د. سوالمي إلى أنّ “حلاق إشبيليا” لم تجدّد في النص، حيث جرى الاكتفاء بإنطاق شخصيات النص الأوروبي بلهجة جزائرية، بالتزامن، انطلقت مسرحية “ثورة” التي أنتجها مسرح سيدي بلعباس الجزائري منتصف العام 2023، من نصي “الجثة المطوّقة” و”الأجداد يزدادون ضراوة” للكاتب والمخرج الجزائري الراحل “كاتب ياسين”، واستعمل عرض “ثورة” مجموعة من الأساليب الإخراجية، حيث اعتمد على مدرستين كبيرتين في الإخراج هما الواقعية النفسية وبعض الخصائص من المسرح الملحمي، وتأسس العرض على المأساة التاريخية، مستعملاً عدّة شيفرات تحيل إلى التاريخ والحاضر والمستقبل، محاولاً انتقاد الانقسامات في أي ثورة ومآلاتها، وكأنّ مصمم العرض سعى للحفر في حاضر المجتمعات العربية، بذهنية رمزية، إذ قدم لنا الصراعات الإيديولوجية وتسببها في وأد أي ثورة.
واستنتج د. سوالمي أنّ التجريب في المسرح الجزائري قام على ضرورات وظيفية ومجتمعية، فظهرت العودة إلى التراث مع ولد عبد الرحمن كاكي لظروف اجتماعية وسياسية كانت سائدة في المجتمع الجزائري، كما كان ظهور المسرح التسجيلي مع كاتب ياسين وليد ظروف موضوعية وأخرى ذاتية، إضافة إلى الرؤى الإيديولوجية التي حملها عقل كاتب ياسين، والظروف أظهرت مسرح الحلقة والقوال مع عبد القادر علولة، قبل أن يعود المسرح الجزائري إلى الاقتباس والاشتغال المغاير على النصوص.
تأثير المرجعيات
ركّز الكاتب والمخرج المسرحي التونسي غازي الزغباني على تأثير المرجعيات المرئية في إخراج النصوص المسرحية المقتبسة، معترفاً أنّ شخصيات “غودو” أرقتّه، ولفت إلى تأثره بمسرح اللامعقول اعتباراً لأنّه مسرحاً متمرداً، وقيام تصاميم “في انتظار غودو” لصمويل بيكيت على السينوغرافيا الأفقية، في خطاب بصري مغاير مزج بين الرموز وغموض الأفكار.
وقال: “حرّك نص مسرحية غودو أعماقي، وانتقلت بهذا العمل بشكي واعٍ أو غير واعٍ إلى طرح أسئلة ميتافيزيقية، في مسعى لتقديم تجارب شخصية بعلائق عمودية تختزل مآسي الإنسان المعاصر”.
وتابع: “في مسرحية الدرس ليوجين يونسكو، انتصرت لمخيال خاص بغرض تجديد أدوات المسرح العربي ومنحه توابل الابتكار، فكانت الطاولة بالنسبة لي هي الركح، والطاولة ذاتها انطوت على دلالات جنسية، وعمّقت ذلك في مسرحية الطرح أسقطت فيه مفهومي للعبث على الواقع التونسي بكل توتراته واضطراباته واحتباساته”، مُسجّلاً أنّ التأثر بالعمل يقوم على التأثر بالأثر الأصلي، لذا تركّزت المخيّلة على السينوغرافيا، متصوراً أنّ النص هو من يفرض عليك.
وأردف الزغباني: “أنا ابن المسرح، ورسالتي الجامعية كانت حول درامية الحركة بين المسرح والسينما”، مضيفاً أنّه جسّد مسرحية “ندبة” عن نص الكاتب التونسي جوهر حاتم، مؤثّثاً اشتغاله بالكتابة المشهدية، وعقّب: “أحبّ السينوغرافيا التي تمنحني مجالات”.
ولاحظ الممارس التونسي أنّ “تأثير السينما موجود على المسرح، ونحن نحاول رسملة ذك لإنتاج فرجة متجددة وتحقيق النقلة والتحوّل بالاستفادة من الخطاب الفني العالمي بمشهدياته ونصوصه”، واستطرد: “عربياً لدينا مرجعيات تخص العلاقة بين السلطة والشعب، ما يدفع إلى المزيد من اقتباسات النصوص الكونية وإنتاج معانٍ سياسية.
الإخراج بين الحياة والموت
في ورقته “الإبداع الفني وجدلية الأثر والتأثير … الإخراج المسرحي المصري مثالاً”، قدّر الباحث المصري طارق الدويري أنّه لا يوجد تأثير أحادي، فكلنا فاعلون، متسائلاً: “أين نحن في منظومة التأثير والتأثر؟ وهل أنت مخرج حي أم مخرج ميّت؟، وتوصّل إلى أنّ المخرج الذي يريد أن يُولد، هو مخرج حي … طالما أنّه منخرط في علاقة حية مع كل الفواعل … يهضم ويدرك ويعيد إنتاج الأشياء”.
وأوعز الدويري: “المسرحية كالقصيدة، لذا وجب تحاشي التكرار لما جرى التأثر به، مع ضرورة امتلاك مرجعية إخراجية، ناصحاً كل مخرج: “لا تكرّر نفسك … وكرّس نفسك أثر باقٍ”، معتبراً أنّ التأثر بأي تجربة عالمية لا ينبغي أن يضير الكاتب أو المخرج، شريطة أن يكون التأثير إيجابياً ويراعي ملامح التجربة والرؤية الخاصة لأي مسرحي عربي.
وفي إحالة على تجربته مع مسرح “الهناجر”، أبرز الدويري هاجسه في تطريز صور جمالية بتوظيف أكثر من نص روائي ومسرحي في عروض مؤثثة بمعطيات الثقافة والسياسة والمجتمع، فضلاً عن استثمار الريبرتوار العالمي من أجل صياغة مشروع حضاري محفّز على التحرّر والانطلاق، حيث تعاطى مع منهج بيتر بروك القائم على البحث والاستكشاف والتفاعل، كما ثمّن تجربة الناقدة المصرية د. هدى وصفي إحدى الشخصيات المؤثّرة في تجديد حركة المسرحين المصري والعربي، من خلال قيادتها مسرح “الهناجر” و”المسرح القومي”.
روح التجديد
ركّز المخرج والممثل والكاتب والمدير المسرحي من الامارات، فيصل الدرمكي، على أنّ توظيف الموروث منطقة خطرة لا يمكن قبول العبث فيها، منادياً بتبني “القراءة المتبصّرة”.
وفي ورقته “المخرج المسرحي واستلهام التراث الشعبي بين التقليد والتجديد”، رافع الدرمكي إلى اعتماد روح التجديد وفق رؤى وضوابط محكمة، على منوال ما شهدته عدّة مسرحيات تراثية في الإمارات، مثل: “حبة رمل”، “خرزة الجن”، “التراب الأحمر” و”شمّة”.
وربط ما تقدّم بأنّ “الهدف من الاشتغال على التراث هو تكثيف حالة مسرحية، وإسباغ هوية مسرحية إماراتية”، مستفهماً: “ماذا لو أعيد إنتاج هذه الأعمال؟”.
وإذ شدّد على أنّ “الفنان الحقيقي لا ينكر أفضال من سبقوه”، أيقن الدرمكي أنّ “ثنائية إسماعيل عبد الله ومحمد العامري تبقى أفضل التجارب المسرحية الإماراتية، وتستدعي استلهامها من الجيل الحالي، منوّهاً بشخصيات “طوّاش” و”البحّار” وغيرهما التي برزت في تجارب “لا تقصص رؤياك”، “صهيل الطين”، “زغنبوت” وغيرها.
وثمّن الدرمكي مُنجز الحكاوي وتجارب المؤلف والمخرج المسرحي الإماراتي ناجي الحاي مبارك، مشيراً إلى أنّ مسرحية “أحمد بنت سليمان” (نص ناجي الحاي، وإخراج أحمد الأنصاري) تضمّنت الجراءة والمغامرة والتمرد، وهي عناصر كرّسها العامري بدوره في تعاطيه مع نصوص إسماعيل عبد الله الثرية والدلالية والرحبة، حيث تصدّى لها العامري بحداثية بعيداً عن القوالب الجاهزة، مسجلاً أنّ العامري تأثّر بعبد الله المناعي مؤسس أول مخبر ركحي في الإمارات.
كامـل الشيرازي